jeudi 1 mars 2018

كيف نظلم أبناءنا؟

في وقت تطورت فيه وسائل التعليم وطرقه معززة بالتكنولوجيا، شاهدت مقطع فيديو مؤخرا لشخص محاط بتلاميذه في حجرة دراسية، ويلقنهم دروسا خاصة في اللغة والتاريخ. يبدو الأمر للوهلة الأولى عاديا، لكن ما قد لا يُستساغ في هذا المشهد بالذات، اعتماد طريقة الحفظ السريع لمفاهيم وأحداث دون تفكير أو نقد، أو حتى مجرد تغيير صياغة النص المحفوظ. أصبح الإقبال على هذا النوع من الدراسة من طرف التلاميذ في السنوات الأخيرة كثيرا، لأن طريقة التقييم القائمة على النقط اليوم أنتجت لنا فكرة مفادها أهمية الشهادة المدرسية مقابل اكتساب ملكات التفكير والإبداع، إنها الوسيلة الأنجع للنجاح في ظل نظام تعليمي معتل.


كثيرون هم الذين أرغموا على تخصصات دراسية، إما لجهل منهم بما يريدون أو لهيبة مهن معروفة في مجتمع يضطر فيه الفرد إلى أن يتبع نفس مسار أبيه أو ابن الجار أو حتى لقلة ذات اليد. ومثال ذلك، أم تقرر مصير ابنتها التعليمي حتى تسمع عبارات الإطراء والمديح بكون ابنتها طبيبة أو مهندسة. وقد يصل الأمر إلى أن تنقطع أواصر عائلية من أجل أن تدرس الفتاة ما تريد، خصوصا إن اجتمعت عوامل اجتماعية أخرى. لذا، أن نفتخر بأبنائنا لا يعني بتاتا أن نقرر عنهم في مصائرهم، أن نفتخر بأبنائنا يعني أن نساعدهم على فتح أعينهم على كل العلوم، إنسانية كانت أم طبيعية أو رياضية، وتحديد ما يريدون بمحض إرادتهم. ينتج لنا هذا الإرغام الأسري تنميطا اجتماعيا لرغبات تلاميذ لم يتجاوزوا الثماني عشرة سنة من عمرهم وقد "حددوا" ما يريدون أن يصبحوا عليه بعد 10 سنوات. أليس بالأمر ظلم وسخف؟


تحظى مهنتا الطب والهندسة في مجتمعاتنا بمكانة اجتماعية مهمة عند الناس، خصوصا لما تحمله من نبالة وبعد إنساني، وقد يختلف الأمر عند مجتمعات أخرى خضعت لعمليات تنميط وإعادة إنتاج نفس المعتقدات
فبهذا الميكانيزم نعمل على إنتاج نفس الأفكار والأشخاص الذين سيكررون نفس الأمر مع أبنائهم وأبناء غيرهم. وقد لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل قد يمس أيضا علاقة المدرسة بالمكانة الاجتماعية للفرد، وهذا ما قرره عالم الاجتماع الراحل بيير بورديو، حينما ربط أصول التلاميذ المنحدرين من طبقة بورجوازية بدراستهم للآداب القديمة ولغاتها، حيث يدخل الوسط الاجتماعي طرفا يمكنهم من امتلاك العادات الثقافية والمهارات الفكرية والهيبة الاجتماعية التي تساعد على تفوقهم، فكل هذا يشكل تصورات وإدراكات وأيضا رؤية خاصة للعالم.

ونفس الأمر يحدث عند أصحاب الطبقة المتوسطة والفقيرة، فقلما نجد أشخاصا خرجوا عن المسار المحدد والمهن المعدة لهم، وشق أحدهم طريقه نحو نقطة نهاية مسار طبقة اجتماعية أخرى. صحيح أنه لا يعدو كونه مجرد استثناء، إلا أن هذا الفرد -في فلسفة بورديو- يقوم في نفس الوقت بإعادة إنتاج الشروط الموضوعية التي ستحافظ على الوضع الاجتماعي وحتى تحسينه، فقد يحدث أن يقوم هذا الفرد بتغيير هذه الشروط وإنتاج أخرى تؤهله إلى تغيير المسار المرسوم له، رغم أن عملية التأثير في وسطه مستمرة دائما. "كل إنسان عبقري .. ولكننا إذا حكمنا على عبقرية سمكة عن طريق قدرتها على تسلق شجرة، فستظل السمكة طيلة حياتها تعتقد أنها غبية".


في مجتمعاتنا العربية تحظى مهنتا الطب والهندسة بمكانة اجتماعية مهمة عند الناس، خصوصا لما تحمله مثلا مهنة الطبيب من نبالة وبعد إنساني، وقد يختلف الأمر عند مجتمعات أخرى خضعت لعمليات تنميط وإعادة إنتاج نفس الأفكار والمعتقدات. إلا أن الأمر يتجاوز هنا رغبة شخصية، ويتعداه إلى إعتبار هذه المهن في أعلى مرتبة في السلم الاجتماعي، وأن من لم يستطع الولوج لكليات الطب ومدارس الهندسة، سيقبع في أسفل هذا السلم. فأن يقرر فرد حصل على معدلات دراسية مرتفعة في الفيزياء والرياضيات ولوج كلية الاقتصاد أو الآداب هو أمر جلل سينظر له المجتمع بكثير من السخرية والريبة أيضا.


تعتمد جميع أنظمة التعليم العالمية اليوم في المرحلة الأخيرة من التعليم الثانوي تصنيفا للأشخاص حسب مسارات أدبية وعلمية واقتصادية، تسهيلا لعملية دمجهم في سوق العمل. النظام التعليمي الحالي يقوم على إنتاج نفس الأشخاص بمعدلات ذكاء مختلفة وتصديرهم لسوق العمل حسب الحاجيات المتغيرة، قليلون من يختارون الخروج عن هذا المسار واتباع مايحبون فعله سواء داخل النظام أو خارجه. هذا النظام صمم بطريقة تمنعه إلى حد كبير من أن ينتج لنا أشخاصا كسقراط وفكتور هيغو والعديد من الشخصيات الاستثنائية التي غيرت التاريخ. فهل تحت مسمى القابلية للتشغيل يمكن أن نجد هؤلاء الأشخاص في الشركات العالمية الحالية ؟ بالطبع لا.


يتغير عالمنا اليوم بسرعة كبيرة منتجا تخصصات دراسية كثيرة نتيجة للتقدم التكنولوجي، وينعكس هذا على اختيارات الأفراد وأحلامهم، بحيث يتجهون إلى ما يريده السوق لا إلى ما يريدونه هم، ومتطلبات سوق العمل اليوم تتضاعف بتزايد المعارف الإنسانية، الأمر الذي أجبر النظام التعليمي لدى الإنسان على تكييف مخرجاته مع السوق حتى يلبي حاجياته، والخطأ ارتكب عندما تم تقسيم تخصص الإنسان المعرفي إلى أدبي وعلمي بطريقة صرفة، وتم إهمال تكوينه على معارف أساسية في التخصصات الأخرى، وبالتالي الحكم عليه بنمط تفكير محدد يفتقد لأبسط أسس التفكير النقدي والمنطقي. يتناسى الناس أن الإبداع والنجاح المهني يأتي بحب ما تفعل، لا بممارسة ما يريده الآخرون منك. ليس من المطلوب اليوم منك أن تكون موسوعيا متبحرا في جميع العلوم بدرجة أولى، ولو أن هذا الأمر سيعود بالنفع عليك أولا ثم على المجتمع، لكن المفروض أن تقرر ماتريد أن تبدع فيه وأن تسعى لأن تعود بالنفع به على الإنسانية. 


 لا يدخل الأكاديمية إلا مَن درس الهندسة " أفلاطون"
نأتي لمناقشة رصينة لقضية الفصل غير المفهوم في تدريس علوم تعتبر أدبية وأخرى علمية. فقديما كنا نجد فلاسفة وعلماء ذوي معرفة موسوعية في العديد من المشارب العلمية كالرياضيات والفلسفة والطب والفلك، وبالمقابل نجدهم متبحرين في علوم الدين (العصر العباسي مثلا)، وكما قلت فليس المطلوب أن نكون مثلهم، فهذا شبه صعب اليوم، ويتطلب عقولا جبارة ذات قدرة عالية على التفكير والتجريد وعلى حفظ الملايير من المعلومات واستحضارها سيما في ظل عصر يتسم بتفجر المعلومات والمعرفة المتفرعة.
فأغلب فلاسفة الإغريق جمعوا بين التفكيرين الفلسفي والرياضي، الأمر الذي انعكس على جودة إنتاجهم الفلسفي. ويتبع هؤلاء نفس الآلية في التعبير عن أفكارهم المجردة، بين لغة رمزية مجردة من القيم وبين جمل منطقية، انطلاقا من مسلمات وصولا إلى إثبات النتائج. حتى إن البرهان الرياضي مبني على المنطق الذي كان أساس الحجاج بين فلاسفة الإغريق. والمقولة المنسوبة لأفلاطون والتي يقال إنها نقشت على بوابة "الأكاديمية"، حتى لو لم تكن منقوشة ماديا، إلا أنها شكلت الأساس الذي على إثره أسس هذا المعهد على تفكير منطقي رياضي.


وفي نهاية المقال، فلنحاول الخروج بفكرة عن المعضلة التي يعيشها معظم الناس اليوم بمختلف أعمارهم وأجناسهم. فمن جهة نجد الأطفال حيارى لا يعلمون ما يريدون فعله في الحياة سوى أبطال تابعوهم، وحتى إذا شابوا ظهرت علامات السخط والندم على سنوات حياة ضيعوها في مسارات لم يكن لهم دخل فيها، فقط لأن ذلك سيكسبهم مالا ويضمن لهم سداد فواتير الكراء والكهرباء ومصاريف الأكل اليومي.


وإن كان طلبة اليوم لم يجدوا في المدراس ما يفتقدون ويعشقون، فقد أصبح ملاذهم الوحيد هو التعلم الذاتي، سواء من الكتب أو الإنترنت الذي فرض نفسه منافسا شرسا لنظام تعليم الدولة، هذا الأخير يسائل اليوم جدوائية مؤسسة المدرسة. وإن كانت المسارات التعليمية لفئة اجتماعية تعبيرا عن أهدافها، فإن الخروج عن مسار ما، يتطلب إعادة إنتاج مسارات أخرى تدخل في إطار رؤية لعالم اجتماعي يراعي في مخرجاته تفكيك البنى التي شكلت المسارات السابقة. 

dimanche 30 avril 2017

الإنسان بين بؤس التصنيف ووهم التقديس

لنظر إلى حال الإنسان في تطاحناته اليومية مع أخيه يبرز أن أغلبها تدور حول محاولة الهيمنة، هيمنة يمكن أن تأخذ أشكالا اقتصادية، ثقافية، لغوية أو عسكرية حتى، فالكل يتذكر جورج بوش بعد أحداث 11 من سبتمبر وسؤاله الشهير الذي يصنف به من مع أمريكا ومن ضدها، هذا السؤال وما على شاكلته ينبع من فكرة تصنيفية ضيقة لا ترى سوى الأسود والأبيض وتسعى إلى التعامل مع الآخر على أساس الموالاة، ويسلك الإنسان هذا السلوك نفسيا كآلية دفاعية وهجومية في الآن ذاته، كي يجعل أمر تفاعله مع غيره عملية سهلة مبنية على نظام بأسئلة سهلة الجواب.

عطفا على المثال السابق، فمن منا لم يعترضه أحدهم بسؤال الأبيض والأسود، السؤال الذي يتوخى طارحه وضعك في قالبٍّ معدٍّ سابقا من صنعه أو بتراكمات مجتمعية. إن التصنيف الذي يقوم به الإنسان عملية فكرية طبيعية يتوخى بها تسهيل تعامله مع العالم، فإذا كانت في الحقول العلمية عملية تمنع الخلط بين المفاهيم والأفكار، فإنه يصبح خطيرا عندما تسحب هذه العملية الإنسان إلى دائرة صغيرة وممركزة حول نفسه.

إن علاقتنا بالآخر تنبني أساسا على نوع من التفضيل لمن ينتمي لطائفتنا أو ديننا أو يتقاسم معنا نفس الأفكار لكن الإنسان نادرا ما يتفق مع أخيه الإنسان في الأمور المشتركة خاصة منها المتعلقة بالسلطة والجاه ويتعامل بنوع من الأنانية، فالاختلاف من حيث كونه قانونا كونيا يضمن للمجتمع البشري استمراريته فهو مولد ديناميته والنار التي تذيب جليد رتابة الحياة في التعامل مع مختلف المعتقدات والرؤى الفكرية، ومتى غابت عن الإنسان روح نقدية وطبعت شخصيته عصبية أو حزبية مقيتة مال لا إراديا إلى تصنيف الآخر، رغبة في تنظيم تعامله معه داخل قوالب جاهزة من صنعه أو من صنع المجتمع، فالتصنيف إذن هو عملية تركيب عناصر النمط على الإنسان.


يستند الإنسان في التصنيف على قوالب معدة يصنف على أساسها، فهو كمن يرمي الناس في حفرة لا لشيء سوى لأنهم لم يوافقوه رأيه
والنمط مجموعة من المعتقدات المؤسسة التي تحكم سلوك الشخص المنمَّط، ويتقوى بكثرة المتأثرين به ولأن قانون الحق مع الجماعة هو المسيطرُ على نفسيات البشر في المجتمع، والمستند إليه في هذه الحالة فوجوده يتعزز أيضا بجودة المرميين في حضنه، وكما أن للنمط ما يعطيه لأصحابه فهؤلاء يجتهدون في تقويته وحمايته فهي علاقة مربحة للكل. 

يستند الإنسان في التصنيف إذن على قوالب معدة يصنف على أساسها، فهو كمن يرمي الناس في حفرة لا لشيء سوى لأنهم لم يوافقوه رأيه، وما حصده الإنسان من ويلات الصراع الفكري الذي يتحول إلى دموي غالبا يجعلنا نطرح السؤال حول هذه النظم الفكرية التي تبيح القتل واستعباد البشر فكريا.

وللتصنيف علاقة وطيدة بالتقديس، أكان لأشخاص بعينهم أو لمكانتهم داخل تنظيم بشري أو جماعة، أو كان لأفكار مرجعية لتنظيم بشري. فالتقديس لغة هو التطهير والتنزيه عن الأخطاء، وفي كل تنظيم بشري قائم على أفكار القادة أو أتباعهم الذين عهد إليهم أمر نشر والحفاظ على أفكار قائد التنظيم وعلى مكانته داخله وأيضا للحفاظ على بيضة جماعته، يستفيد الزعيم من حوادث ويتم المبالغة في استثنائية حدوثها فتصور على أنها معجزات خارقة.


ويمكن القول إن التقديس هو توسيع أو تمديد لنطاق التصنيف، فإذا كان التصنيف يعمل على التفرقة بين الأشخاص أو الأشياء على مرأى أعين الناس أي أفقيا ويساوي بينهم من حيث النوع، فإن التقديس يرفع مكانة الشخص أو الشيء فوق كل شيء أي عموديا فيعدو المقدَّس من نوع مختلف كأنه إله أو ملاك.

والتقديس ليس مرتبطا دائما بالفكرة الدينية، فكما يعلم الجميع فهناك اليوم العديد من الأيديولوجيات التي يتبناها الناس وتشكل منهاجا لحياتهم، فيحاجون بها ويدافعون عنها وقد يموتون من أجلها وليس هذا الأمر سيئا في حد ذاته إذ لست في معرض تحديد السيء من الجيد.

فكما قال إبراهيم البليهي في مقال له حول تقديس الأشخاص، أن ما يحدث للناس بتقديسهم لأشخاص مميزين، أنهم يفترضون أن ما جاؤوا به لا يمكن تجاوزه أو دحضه في حين أن إبداع هؤلاء محصور في الزمان والمكان والظروف التي أهلتهم إلى هذا التميز. وبالتالي فالمبالغة في التقديس والإعلاء من شأن أي شخص أو فكرة تحجب إمكانية الإبداع ومنه المساهمة في البناء الحضاري. فمن غير المعقول أن نسلم بعدم تكرار نموذج استثنائي لشخص أو فكرة فلكل شخص أسلوبه وأفكاره التي استقاها وركبها وكونها، فلا نهمشه ونحتفظ بالتقدير النسبي له ولا نبالغ حتى نخرجه عن حدود الضعف البشري.

نفسيا، يمكن أن نفسر رغبة الإنسان الدفينة في التقديس هو احتياجه للإحساس بالانتماء، فهو يستمد قوته من هذه العلاقة مع من يتقاسمه أفكاره ويعززها، والتي تمده براحة نفسية تعفيه من كثرة التفكير في العديد من الأسئلة التي تشغل وجدان غيره من التائهين والباحثين على أجوبة لأسئلتهم، فالشعور بالانتماء تنتج عنه سلوكيات تؤثر على علاقة الشخص بالمقربين له ومحيطه وكذا على تصوراته حول العالم ،فتؤثر هذه الأمور بشكل كبير في مصيره. 


بقاء الإنسان وسط جماعته لن يسهل عليه معركته، فهو يسلم عقله للجماعة فهذا الحضور وجداني بالأساس، فليس ضروريا أن يكون فيزيائيا محصورا في المكان، لذا فالحل الذي سلكه أكثر الناس تأثيرا في التاريخ هو الانسحاب ثم العودة
يضاف إلى هذا احتقار الإنسان لنفسه واستبعاده لأدنى محاولة للتجديد والإبداع، فهو كسول فكريا ويريد من الآخر التفكير مكانه ولهذا جذور في عقله، لقد لُقِّن أن التفكير فيما جاء به أسلافه ونقده أمر محرم وأن ما جاؤوا به هو الحقيقة التي لا تقبل نقاشا، لذا فهو يربط نفسه بشيء يعتبره أعلى منه مكانة، ويجتهد في الدفاع عنه لأن بهذا السلوك سيحمي جماعته رغم أن هدفه حماية نفسه من خطر الخروج من منطقة راحته، فلكل منا منطقة راحة يتصرف فيها بشكل مستقل جزئيا دون ضغط مجتمعي.

أليس الحديث عن هذا الأمر يثبت إلى أي حد نحن ضعفاء؟ للأسف نعم، فالإنسان نادرا ما يفلت من شباك النمطية وإذا استطاع ذلك سيكون بعد جهد مضن قاسى فيه شتى أنواع الصراعات، ابتداء من النفسي مرورا بالفكري وانتهاء بالجسدي والأمثلة من التاريخ الإنساني تثبت ذلك.

السؤال إذن ما الحل؟ فبقاء الإنسان وسط جماعته لن يسهل عليه معركته، فهو يسلم عقله للجماعة فهذا الحضور وجداني بالأساس، فليس ضروريا أن يكون فيزيائيا محصورا في المكان، لذا فالحل الذي سلكه أكثر الناس تأثيرا في التاريخ هو الانسحاب ثم العودة وأولى علامات الانسحاب أنه قد يشاركهم في أنشطتهم لكن عقله معصوف بألف فكرة وفكرة، فهو منسحب عقليا عنهم ولا يلبث بعد دلك أن ينسحب عنهم ليقوم بعملية مراجعة وإعادة بناء منطقة راحة صلبة، لا تتأثر بالأفكار الجامدة وتكون في عملية تجديد دائمة مع رؤية واضحة، فيعود بما يكسر النمط السائد وهذا كان درب أغلب الاستثنائيين. إذا فالتصنيف والتقديس نابع عن جهل الإنسان بنفسه، وأولى خطوات الحل هي معرفته لنفسه وتهذيبها.

lundi 31 octobre 2016

الجهل كبنية ووسيلة!

نحت محمد أركون مفهوم الجهل المؤسَّس، وقصد به تأسيس المدارس والجامعات العربية للجهل، حيث يصبح الإنسان مضيفاً وحاملاً للجهل فيمرر بِنْية الجهل التي اكتسبها متجلية في معتقداته وسلوكياته للآخرين، ومن يأتي بعده. يعرّف الجهل بأنه عدم العلم بالشيء وقد قُسِّم لنوعين، الجهل البسيط وهو عدم العلم بالشيء واقتناع الإنسان بأنه يجهله فيسعى لتعلم ما يجهل، والجهل المركب الذي يختلف عن سابقه بكون الإنسان لم يدرك جهله للشيء بعد، وهذا النوع منتشر كثيراً في المجتمعات المتخلفة.

قليلة هي الأعمال الفكرية التي بحثت في موضوع الجهل وحاولت تفكيكه، فقد اهتم الإنسان بالعلوم وتتبع نشأتها وتطورها وحاول تسليط الضوء على الأماكن المعتمة على بحر الجهل الممتد. ويعتبر المفكر السعودي إبراهيم البليهي أن "طريقة التفكير والحكم على الأشياء خارج النطاق الضيِّق للتخصص يبقيان محكومين بالخريطة الذهنية والوجدانية السابقة للتعليم"..

فرؤية المتخصص لقضية معينة ليست هي رؤية متخصص في مجال آخر لنفس القضية، فما يكتسبه الإنسان طوال فترة تعليمه يساهم في تكوين منهج خاص به في كيفية تعاطيه لأمور الحياة وتفاعله معها.
وتسود -حسب البليهي- فكرة عدم تكون المعرفة كرؤية عامة، "فالتخصصات تأتي كقطاعات متمايزة منفصلة، بل وأحياناً متنابذة ولا تشكل نسيجاً متماسكاً"، فمعرفة الإنسان تستوجب استلزاماً أن يكون جاهلاً قبل أن يدرك الشيء ويعرفه، وحتى معرفته هذه ليست بالكاملة، ويرجع هذا لطبيعته غير الكاملة.

يمكن تصوير المعرفة بجميع تفاصيلها بمستوى هندسي، وتقتضي معرفة الإنسان بشيء ما، معرفةَ العلاقات التي تربطه بما يجاوره من أشياء في محيط المعرفة الكاملة، وكلما أدركنا هذه العلاقات أكثر، جاز لنا أن ننظر للشيء من زوايا متعددة..
فمعرفة الإنسان مكتسبة عن طريق الحواس، ومتغيرة لأنه قد يحدث أن تكون المعلومة المكتسبة خاطئة، ومتجددة بمعنى عدم الإحاطة بالشيء من أول وهلة، وهذا فرق جوهري بين علم الإنسان وعلم الله، فعلمه عز وجل غير مكتسب وثابت وواحد كامل.
ما يمكن أن نستنتجه مما سبق أن محيط الجهل شاسع جداً، مقارنة مع مقدار ما يعلم الإنسان. فالجهل نظام فكري تتركز قوته في مجموعة من الأفكار، تعمل على التحكم بالعقل ببناء حصن يمنع أي محاولة لتحطيم أسس ذلك النظام. فقد يلبس هذا الجهل لباساً دينياً، وقد يقود الشخص إلى الجهل بحقيقة نفسه وحتى حقوقه كإنسان ويتسبب بدمار من حوله، وبتعبير آخر فالجهل عبارة عن نقاط سوداء متصلة بينها، تشكل غشاوة على عقل الإنسان صعبة الاختراق.
 
حتى يتضح مقصودي بكون الجهل يشكل منظومة فكرية، فهو في كل مجال يزرع أذرعه حتى يتقوى ويستطيع السيطرة على عقل الإنسان، بإيهامه بامتلاك المعرفة وتسهيل سيطرة الآخرين عليه. وللجهل ارتباط قوي بالتخلف، فما تخلفت دول العالم الثالث سوى لابتعادها عن استعمال سلاح المعرفة ورهن مصيرها بخرافات أو فهم خاطئ لمعتقداتها، كالدين بالنسبة للبلدان ذات الأغلبية المسلمة دون نسيان طغيان مجموعة من الروايات الشفهية والأساطير التي تكرس النفسية الانهزامية والجمود الفكري.

في الحقيقة إن الجهل هو ذلك الصديق العدو الذي نلومه على عدم استطاعتنا الخوض في التفكير في موضوع مؤرق، مما يجعل عيش الإنسان في هذا الوضع أشبه بسجن بدون قضبان، صديق لأنه يمكننا أن نحتمي وراءه حتى يمتص الضربة ونعود لحياتنا بشكلها العادي، وعدو لكون أي محاولة للانعتاق منه تقابلها مقاومة من آليات نظام الجهل الفكري.

إذا كان الجهل بهذه القوة والتأثير، فلا يجد الإنسان أمام رغبة السلطة والتحكم سوى أن يستغله كي يصل لمآربه. فعلى مر التاريخ شهدت البشرية استغلال العديد من ذوي النفوذ، سواء منه الديني أو السياسي أو العلمي أيضاً، لجهل الناس وعدم وعيهم بما يضمره هؤلاء. ولكي يصل هؤلاء الأشخاص لهذا المستوى من القدرة على العبث بعقول الناس وتحريكهم كما أرادوا، لا بد أن يمتلكوا نصيباً كبيراً من الذكاء والدهاء للتحكم بالجماهير.
سرد طريقة كل من هؤلاء أمر سيطول وسيتشعب، لذا فسأركز على حالتين اثنتين منتشرتين يتم تكريس الجهل من خلالهما في أي مجتمع إنساني..


الحالة الأولى: الجهل والبروباغندا

عند مخاطبة الجماهير، يختار الخطيب ما يريد من الكلمات التي تخدم غايته وهو أمر مطلوب، وقد يستغل جهل الناس بمجموعة من الحقائق ويزيفها حتى يكاد يظهر بثوب الضحية بعدما كان في نظر الناس جلاداً، لكن ما الذي جعل هؤلاء يكتفون بما يقول الزعيم أو الشيخ، أهو كسل أم اقتناع؟
يصعب الجزم بأنه اقتناع بمدى صدق وصوابية كلام المتحدث، فموقع المتحدث يحيطه بهالة من القدسية التي تجعل كلامه قابلاً للتأويل الإيجابي، أي فيما يصب في مصلحة الناس، كما ينعدم وجود الفرد داخل الجماعة، فتصبح هذه الأخيرة ذاتاً واحدة متجانسة ويرتفع منسوب العاطفة لدى الأفراد وتنخفض طاقة التفكير، وقليلاً ما يخرج أفراد من هذا الجمع حتى يفكر فيما لم يقله المتحدث، فمهما حاول أن يُخفي عنهم ما يجهلون يظهر بين ثنايا كلامه ما لم يقل.
وطبيعي أن تحاول الفئة المؤمنة بالخطاب السائد أو ذات الأيديولوجيا المشتركة، أن تضم تلك الفئة القليلة غير الراضخة لها حتى تلتهمها. وهذه الظاهرة ليست هي الوحيدة التي يمكن أن نتحدث عنها، فاستمرار الجهل رهين بالمجتمع نفسه، فهو الذي يسقي للجهل جذور انغراسه في عقله -أي المجتمع- الخاص وهو الذي بإمكانه قطع تلك الجذور عن طريق العلم الذي ينير الطريق.

الحالة الثانية: الجهل بالمعنى

العقلانية والعلمانية على سبيل المثال، مصطلحان كثيراً ما يُساقان في نقاشات العامة من الناس، وما يلاحَظ أنها في عقل الناطق بها سُبّة، ويرجع هذا بصفة عامة وفي غالب الأحيان إلى غياب المعنى في عقل الإنسان، خصوصاً إذا كان موضوع الحوار يتطلب معرفة متخصصة، كما أن هذا الأمر ينتشر بشكل لافت في المجتمعات التي تكرس فكرة الرأي الواحد، ويتم التخويف فيها بخطر الأفكار الجديدة. والجهل بماهية الشيء وطبيعته هو جهل مركب يجعل المتحدثين يخوضون في قضية هم لمعناها وثناياها جاهلون ولجهلهم بها غير مدركين.
فكم من الجهد والكرامة يمكن أن نحفظ، إن نحن التزمنا بقليل من الاحترام لأنفسنا وللآخرين وبشكل أسمى للحقيقة التي نحاجج باسمها وندعيها بكل عنجهية. فالإنسان بطبيعته يسعى لإثبات وفرض رؤيته، ولا يدع غالباً مجالاً للقول باحتمال وجود جزء يسير ضعيف في فكرته..
قد يبدو هذا الكلام مثالياً، وتحقيقه أمراً صعباً للغاية، إلا أنه وكما قلت فنمط التعليم الذي يجعل الإنسان متخصصاً في علم معين وغير مدرك لكمِّ ما يجهل في العلوم الأخرى، يُنتج لنا إنساناً محدود الرؤية رغم قدرته على الإبداع في مجاله، ومحدودية الرؤية هذه تتفاوت من مختص لآخر وأقصاها مر.

lundi 19 octobre 2015

دين فوق الدين.. نحو فهم آخر للإنسانية

قد يبدو الموضوع غريباً للبعض ومستفزاً لآخرين، وكما أنه ضايقني لدرجة أنه استفز عقلي وجعلني أفكر في الأمر مراراً حتى أني وجدت نفسي حائراً بين أمرين، ومن عادتي أن الأفكار التي يكثر الحديث عنها تثير فيَّ رغبة في انتقاد هذا الإقبال متسائلاً عن الذي يجعل مثل هذه الأفكار تعتنق بسهولة، خصوصاً أن صاحبها تبنّ غير طبيعي لها ولم يكن نتاج نقاش عميق.
تعكس فكرة هذا الموضوع من خلالها فلسفة خاصة لرؤية الإنسان للعالم، وتندرج ضمن إطار يهم رسالة الإنسان في الأرض وهي فكرة ليست بالمألوفة، خصوصاً أن جزءاً منها يتركز على معنى خاص لمفهوم شائع الاستعمال، ولكنه صار يتردد على الألسن كثيراً، مع العلم أن أفعال المنسوب لهذا المصطلح هي أفعال تخضع لميزان الأخلاق، وكما يمكن ترجيحها خيرة يمكن ترجيحها شريرة.
وبما أنني ذكرت الأخلاق فأنا بالضرورة أتحدث عن الإنسان، وأيضاً الإنسانية كسلوك وليس جماعة البشر على الأرض منذ آدم إلى الآن. وللإيضاح، لماذا يطلق على كل عمل خيري أنه إنساني، في حين أن الأعمال السيئة هي أيضاً صادرة عن الإنسان؟ وهل لا حظّ للإسلام من الإنسانية؟
عند طرحي لهذا السؤال هممت محاولاً الإجابة عنه، قائلاً إن الأصل هو وجود الخير لكن هذا الإنسان ورغم كونه مكرماً من عند الله وأنيطت له مهمة الخلافة في الأرض إلا أني لا يمكن أن أتناسى عند وصف عمل خيري أنه إنساني، الجانبَ الآخر للإنسان وعدد القتلى وكم الدمار والفساد الذي خلفه طيلة مكوثه فوق سطح الأرض.
ولهذا فعندما تفكرت في المصطلح وقلبت معانيه وتقمصت دور صاحب الرأي المعارض لما أفكر فيه وجدت أن مآل استهلاك معنى خاص من الإنسانية لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة وحتى وإن أدى فلن يكون ذلك راجعاً له بالأساس، فكشأن كل شيء في التاريخ، مر مصطلح الإنسانية بتطورات من ناحية معناه فكل مذهب يفسره بنحو يعكس نظرته للعالم، فقد ظهر كحركة فلسفية تدعو إلى إعادة الكرامة إلى القيمة الإنسانية. وارتبط أيضاً بالعلمانية وهنا نجد النزعة الإنسانية العلمانية التي ترفض الأمور الخارقة للطبيعة والأمور الإيمانية بشكل عام وتسعى إلى مجتمع أكثر إنسانية من خلال نظام أخلاقي قائم على القيم الطبيعية والبشرية والعقل المتسائل الحر.
وجب قبل المضي في الموضوع أكثر أن أوضح نقطة مهمة قد يغفلها البعض، فكل كلمة لها معنى أو عدة معانٍ حسب السياق، وهذا المعنى مرتبط بالوسط الذي أنتجت فيه الكلمة أو نمت فيه، فعندما يتم نقلها إلى وسط آخر قد يختلف المعنى الجديد عن المعنى الأول، وعلى سبيل المثال فالترجمة تستوجب عند ظهور مصطلحات جديدة بلغة أجنبية ضرورة البحث عن كلمة مقابلة لها، لكن الفخ الذي لا مناص منه هو أن الكلمة التي قد نجدها لها معنى خاص باللغة الأم وقد تشترك في بعض الأمور مع المصطلح الأجنبي, وقد يحدث أن يتغير معنى الكلمة في نفس الوسط مع مرور الوقت نتيجة عوامل اجتماعية.
الظاهر أن المشترك بين هذه المعاني والتعاريف التي ذكرت هو غياب البعد الديني الذي يربط أهداف الحركات الإنسانية بغاية أخروية، تتجلى هذه الأخيرة دنيوياً في مهمة خلافة الله في الأرض، ويتأتى ذلك بتزكية النفس وتخليق الروح التي تقود الإنسان إلى تنفيذ أحكام الله والعيش الكريم للإنسان.
لولا عكس المعنى لما كان للمعنى وجود.
خلق الإنسان وأعطي حرية الاختيار بين تزكية وتدسيه نفسه، ومن منا لم يقرأ أو يسمع كلمة الإنسانية ولم يخطر في باله أنها مقابلة للخير، فستبقى ثنائية الخير والشر محركة التاريخ الإنساني حتى فنائه. فأثناء التعاطي مع الإنسان كروح ومادة لا ينبغي أن نهمّش جزءاً عن آخر، فتغليبنا للروح بالميل نحو اعتباره كائناً روحانياً هو أشبه باعتباره ملاكاً، في حين أن في خلقه بهذا التركيب حكمة والحرية التي بموجبها يختار الإنسان الوجهة التي يريد الوصول لها، تجلٍّ لهذه الحكمة، فالجزآن لا ينفصلان عن بعضهما بعضاً.
إن ما أرمي له من خلال مقالي ليس الوصول إلى فكرة أن أصل الإنسان هو الخير، بل الوصول إلى معنى عميق للإنسانية بعيداً عن التعريفات السطحية وتلك المرتبطة بالمادية المنزوعة من ارتباطها الأخلاقي بالحياة, معنى يعبر بحق عن ملحمة الإنسان في الأرض، في سعيه للتزكية، في جهله، في مرضه، في عدم كماله وفي موته, في فقدانه لأعز من يملك وسعيه بالمقابل نحو إيجاد دواء لمرض عضال.
في الأفلام البطولية نحزن كثيراً لموت البطل، والوصول إلى عمق هذا المعنى من الإنسانية يتطلب نضجاً عقلياً كبيراً كي نفهم أن بموت الإنسان تحيا القيمة التي دافع عنها هذا البطل, ولنا بموت الرسول صلى الله عليه وسلم حكمة, فقد مات محمد الإنسان جسديا لكن الدين الذي جاء به محمد الرسول استمر بعده وانتشر في الأرض ومع ذلك لايزال الرسول بشخصيته وأخلاقه وسيرته حياً داخل كل إنسان بغض النظر عن دينه كون رسالته الموجهة للعالم والمستمرة في الزمن قد أثرت على غير المسلمين وتركتهم منبهرين به.
مسار الإنسان في هذه الحياة امتحان لقدرته على التقاط النور الإلهي والتمسك به منيراً درب حياته، وعلى إصراره على العودة بعد التيه. إن مهمة خلافة الإنسان في الأرض مسؤولية لها أبعاد تبتدئ من ذاته ونفسه وتنتهي عند الإنسانية كلها وتمس حتى الجماد، ومتى كان المسلم واعياً بدوره النهضوي في الدنيا، ملتزماً بكتاب الله وهدي رسوله كان آنذاك بمعية السند الإلهي على خطى إنجاز مهمته في الدنيا.
إن الإسلام دين إبراهيم قبل أن يكون لمحمد رسول الله واجب تبليغه للإنسانية، يعني أنه دين للإنسان الذي هو من خلق الله، والإنسان بالتزامه بهذا الدين وتعمقه فيه واقترابه من الله يكتشف نفسه أكثر فأكثر ويحس بإنسانيته وضعفه أمام خالقه. فالإسلام بمساواته للإنسان بأخيه الإنسان في القرآن بتكريم الله له واحترام حق الحياة لكل إنسان بغض النظر عن دينه كما ذكر في القرآن (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، لا يدع أدنى شك بأن الرسالة المحمدية تقصد الإنسان وإسلامه هو نتيجة اقتناعه بهدفه في الحياة.
ختاماً تجاوز البعض هذا الأمر ببحثهم عن مرجعية تتجاوز إسلامهم، في حين أن من صميم الدين الرفعة بالإنسان، ولم يكن الإسلام يوماً نقيضاً للإنسانية حتى يرى البعض ما رأوا، إن من شأن هذا الأمر أن يجعل الإنسان يتحرك بناءً على مرجعيتين وأن يخلق ديناً فوق دينه، في حين أن في رسالة الإسلام الخالدة تعبير عن إنسانيتها وتجانس طبيعي بينهما, فاستيراد مصطلح الإنسانية من وسط آخر وإسقاطه على مجتمعات ذات أغلبية مسلمة تمتلك معنى خاصاً سامياً للإنسانية مرتبطاً بغاية أخروية، واستهلاكه يجعلنا أمام أزمة استهلاك. فالإسلام في منظوره للإنسانية يجعل علاقة الإنسان بأخيه تمر عبر الله، أي أن كل عمل مرتبطٌ بالله، وهذا هو ما يميز هذا المنظور عن أي منظور آخر أجوف للإنسانية.

samedi 23 août 2014

غلمان الصهيونية و السقوط الأخلاقي

تقف غزة اليوم كما وقفت مرات عديدة عصية على الكيان الصهيوني وأمام دعوات الإنبطاح و الخيانة من طرف عملاء العرب و أدعياء الصهيونية , إن ما نراه اليوم هو ظهور لحالات تصهين جنينية في عهد بدأت فيه الإنسانية تستعيد جزء من حريتها المسلوبة خاصة في شمال افريقيا و الشرق الأوسط إبان الخريف العربي. هذا الكيان الغاصب الذي يقوم على فكرة إلغاء الآخر و تسويق صورة الضحية في حين أنه الجلاد, يثير شفقة بعض المغفلين من أدعياء الإنسانية المزيفة من علمانيين و حداثيين الذين يريدون التأسيس لأفكار الخنوع و الذل للمحتل في تشابه واضح مع فكرة الحاكم المتغلب لدى متطرفي السلفية, إنه تطرف مقابل تطرف، فالمنتسبون لكل تيار يأخذ من منظريه القشور و ينسى القيم التي بنى عليها نضاله الإنساني التي كانت مساهمة في تقدم الإنسانية ,بشكل عام.

شاركت مؤخرا في مبادرة شبابية نظمت دعما للقضية الفلسطينية تعريفا و مناقشة و اقتراحا لحلول تزيل عنا عبئ حمله علينا ضعف و خنوع الحكام العرب . ساد طول فترة النقاش جو ايجابي يتخلله وعي بالقضية و حمل معه نفسا جديدا لخدمة هذه القضية العادلة , يا ليت الأمور بقت على هذا الحال لكن و مع نهاية اقتراب نهاية المناقشة أخذ احدهم الكلمة حتى يشرح وجهة نظره التي ابانت من جهة على جهله التام بالقضية و من جهة أخرى على مرض التصهين الخطير . حيث أشار في كلمته البيئسة عن جهله بسبب الصراع و يظهر هذا بكونه قد قدم "اسرائيل " كدولة ديمقراطية تحترم مواطنيها و إنطلاقا من هذه النقطة فلها حق الدفاع عن نفسها , ألا يشبه هذا الأمر ما تصرح به الخارجية الأمريكية , فبالله عليك كيف تعطيها الحق و هي محتلة لأرض فلسطين متغافلا هنا عن مجازرها التاريخية , فلم يقف الأمر عن هذا الحد بل لقد تلفظ بما هو أشنع أخلاقيا و للأسف أصبحت هذه الفكرة الخبيثة تتردد على ألسن العديد من الشباب العربي كون سكان غزة يستحقون ما يجري لهم كون حماس هي من بدأت بإطلاق الصواريخ  . هذا ما جرى و إن كان عصيا على 
.الإستيعاب إلا أنه الواقع المر الذي يجب مواجته بالتوازي مع مواجهة الصهاينة العرب


أريد أن أنبه الكثيرين  لأمور ستبين مدى تقدم  تلك البقعة من أرض فلسطين في مختلف الميادين , فقد دام الحصار أكثر من ثمان سنوات لكن قطاع غزة يعتبر المنطقة العربية الأقل نسبة في الأمية فيما تعتبر الجامعة الإسلامية بغزة  أفضل جامعة في فلسطين و تحتل مرتبة متقدمة في افضل عشر جامعات عربية , و في ظل هذه المعطيات أصبح قطاع غزة إضافة إلى عوامل آخرى قادرا على صناعة سلاحه و الوقوف في وجه " اسرائيل " مدمرا جيشها في المواجهات البرية مرات عديدة و محطما اسطورة الجيش الذي لا يقهر من طرف شعب لا يقهر رغم آلامه.يقوم البعض خصوصا في ظل العدوان الأخير بمهاجمة حماس  كونها اختطفت ثلاثة مستوطنين ,بل و في ظل انكارها و خلوص التحقيقات الإسرائيلية إلى "براءة " حماس من هذا الإدعاء وصل الحد ببعض دعاة الإنسانية المزيفة أن يساووا بين الضحية و الجلاد و يدعوها   لتتحمل مسؤولية أعمالها و أن ما تفعله هو اختباء وراء الشعب الفلسطيني بينما تقوم هي بإطلاق الصواريخ , إن هذا الكلام يشبه إلى حد كبير كلام الصهاينة مما لا يدع مجالا للشك أننا بصدد حالة ولادة قيصرية لما سأطلق عليهم غلمان الصهيونية , و هذا مستوى  متقدم جدا من التطبيع , ففي الماضي كنا نشاهد تصريحات لخونة العرب و ترى في وجوههم ملامح الضعف و الذل كأنهم يقولون ما بنا رمينا أنفسنا في هذا الجحيم أما هؤلاء فيقولونها بكل فخر كأنهم ينتظرون من " اسرائيل " مجازاتهم و نيل الجنان بهذه المداهنة لكن هيهات , فكيف لمن خان أعدل قضية إنسانية كي يرتمي في حضن أبشع كيان عرفته البشرية أن يكون إنسانا , فمن فقد أخلاقه كان كمن فقدَ إنسانيته.

إقليميا ,بات من المؤكد أن من أهداف الانقلاب في مصر هو الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني بل ظهر بشكل جلي رغبة دول خليجية بتواطئ مع إسرائيل استئصال شأفة تيار الإخوان المسلمين في مصر و في العديد من الدول العربية و آخرها رغبتهم الواضحة نزع سلاح المقاومة في فلسطين و خاصة في غزة بعد أن عجزوا قبل ثمان سنوات عن ذلك مع حزب الله اللبناني قبل ان يرمي بنفسه الى الوحل.يأتي هذا الكلام في خضم ما نشاهده في الإعلام الذي نحسبه عربيا و أٌقصد المصري , هذا العداء الذي بتنا نشاهده و ننصت له بكل غضب و مرارة ليس وليد هذه اللحظة بل قد بدأ منذ سنتين و خصوصا عند صعود مرسي للحكم , فهو اعلام يعج بالمرتزقة عمل على شيطنة التيار الإسلامي و بما أن حماس حسب وصفهم امتداد للإخوان المسلمين في فلسطين فقد سوقوا لنفس الأسطوانة ,أسطوانة الإرهاب المشروخة,التي يعرف الجميع أهدافها ففي حين أن تعريف الإرهاب يبقى رهينا بالجهة التي تستعمله فقد تم استعماله لنسج حكايات خرافية اقتحام سجن و قتل للجنود .إن المتأمل الصادق في تاريخ حركات المقاومة سيخلص في  النهاية أن المقاومة تنتصر في النهاية مهما كان فارق القوى بينهما و ما غزة ببعيدة عن أعيننا . فأغلب الدراسات الدولية من بينها الأمريكية  تشير إلى أن اسرائيل في طريقها للزوال , و حينها لن يجد الصهاينة العرب ملجأ فكريا لهم لأن عداءهم للمقاومة مبني على أساس أديولوجي للتيارات الإسلامية ,لكن ما يغفل عنه بعض غلمان الصهيونية  من علمانيين و حداثيين عندما يتحدثون على حقوق الإنسان في بلدانهم و يتجاهلون ما يحدث في فلسطين لا لسبب سوى أنها تحمل جينات اسلامية ,أنهم يهدمون فكرة الإنسانية  التي لا تعرف لمناصرة المظلوم حدودا في عمقها,ناهيك على مركزية قضية فلسطين للمسلمين.

إننا أمام لحظة تاريخية جاءت لترسل من جديد رياح التغيير في الدول العربية و كي تزعج  المستبدين العرب و  تعصف بخدام عروشهم و حفنة الكهنة المحيطين بهم , لحظة عز للمسلمين بغزة و تذكرنا و تقول لمن قال بأن هذا الخريف مؤامرة أنهم واهمون و إلى جحورهم سيعودون , لحظة تذكر عُبَّاد المفاوضات أننا أمام عدو غادر لا يرضخ إلا بالقوة .

!!! رحم الله شهداء غزة و شهداء الثورات العربية 

dimanche 26 janvier 2014

الإختلاف , نظرة أخرى



يمكن أن يعزى الاختلاف بين مختلف المجتمعات العربية  إلى اختلاف على مستوى المنظومة القيمية الأخلاقية التي تكونت من خلال عادات و تقاليد المجتمعات على مر القرون و أساسا الإسلام الذي عمل   على تنظيم حياة الإنسان على مستوى الغاية و تهذيب روحه و ربط الأخلاق بما هو أسمى حتى لا تتحلل. فالمجتمعات العربية بتعدد خلفياتها و تقاليدها  و بنيتها مختلفة  على نظيراتها الأوربية و الأمريكية  و كذا على مستوى رؤية المسلمين الحضارية المتمثلة في هدف خلق الله للانسان من خلافة و اعمار للارض فالرؤية هنا مستمدة من الجانب الديني عكس المجتمعات الاخرى التي وضعت الدين كإعتقاد جانبا.ومن نافل القول ان المبادرات العديدة في العشر سنوات الاخيرة  لتشخيص امراض المجتمع  التي استنار أصحابها بنور أفكار النهضة ، أفكار مالك بن نبي التي أنارت معظم نقاط الظلمة في الرؤية الحضارية ,  قدمت تفسيرا للخلل الذي تتفرع منه أزمات الأمة العربية و الإسلامية لمعرفة كيفية النهوض فمنها ما يتعلق بالإنسان و منها ما يتعلق بالتراث الإسلامي ، و أضحت الحاجة كبيرة في ظل نمو فكر الغلو و التطرف المذهبي إلى فكر إسلامي  بحداثة أصيلة  بروح متجددة و في الوقت ذاته متناسبة مع تطور المجتمع الإنساني و ليس مع ما فرض عليه من ثقافة المجتمعات الأوربية و الأمريكية من بعض القيم المادية الهدف و ما يشوبها من انحلال خلقي.

فتنظيم المجتمع يخضع لقيم خلقية تنظم نشاطه نحو غاية يحددها ،وهي مقاييس و قواعد قابة للتغيير.فاذا تابعنا تطور المجتمع الإسلامي منذ ان وضع الرسول  صلى الله عليه و سلم لبناته الأولى فقد بلغ أوجه في عهد الخلفاء الراشدين و بدا أفوله مع تغيير نظام الحكم كنقطة سقوط و انحدار متميزا  بغلبة فكرة الكم على فكرة الفعالية , بمعنى توجه المسلمين للتوسع بشكل يعتمد الهيمنة و لم يعمدوا على تكوين الانسان روحيا و اخلاقيا. طبعا هنالك استثناءات, لكن النموذج السائد هو ما اوصل المسلمين الى ما عليهم اليوم , و كمثال أورد تساؤلا يؤرقني لماذا اتجه المسلمون في  "الفتوحات" للشمال و لم يتوجهوا نحو جنوب أفريقيا و الشرق نحو اسيا ؟ و لماذا عندما يتناول هذا الموضوع، نتكلم عنه بفخر كأننا أوصياء على غير المسلمين و أن بأيدينا مفاتيح الجنة, نعظم من نشاء و نظن الآخرين عبيدا لنا وجبت عليهم الطاعة في حين ان الواقع اليوم هو عكس ما نظن تماما ! اترك للقراء حرية البحث, فالبحث في هذا السؤال سيتيح لنا  تصحيح أفكار كثيرة في إطار تعاملننا مع غير المسلمين .  

و  الذي انتبه فعليا للإ شكال يجب ان يعي ان المشكل من داخل تراثنا الذي نعطيه طابع القدسية مخلفا
آنذاك اعتقادات بالتعالي على الآخر و غيرها من الآفات النفسية فيقوم ذلك التراث المجتمعي عن طريق أدوات ناتجة عن تراكم تجارب الأجيال المتعاقبة بتحصين نظام عمله كإضفاء طابع ديني تارة أو طابع التقليد ، لذا يجب على النقد بالأساس أن يتوجه لكيفية نظر المجتمع للمختلف و للمخالف . هذه الخطوة التي تندرج في إطار محاولة لتشخيص الأزمة يجب ان تنطلق من الشعور بالمسؤولية و ليس من منطلق الوصاية و  فرض نمط خاص لا خروج عنه من طرف المجتمع ، و بالنسبة لهذا الأمر  فهو يدخل في أساسيات بناء دولة الإسلام التي هي بالضرورة دولة الإنسان بغض النظر عن المعتقد  كون رسالة النبي صلى الله عليه و سلم رسالة عالمية ,ففي هذه الدولة جميع الأفراد متساوون في الحقوق و الواجبات فلا نحن مواطنون من الدرجة الأولى (أي المسلمون ) كما يصور البعض و لا الآخرون ثانويون  و لا حتى من درجة ثانية ، و كما أفردت مسبقا لا يجب أن يكون عيشهم في هذا البلد تفضلا منا عليهم لست هنا بمدع فحقوق الانسان فصلت في  القرآن قبل ان تذكر في الاعلان العالمي لحقوق الانسان .  

قد يقول قائل أن هذا النقد يدخل في جلد الذات و الأمة بخير طالما التزمت بطاعة ولي الأمر و بالعبادات و عن السكوت إزاء أصنام تراثها و طابوهات المجتمع . نصلي كل يوم و نصوم كل سنة ، كما نحن هذه السنة كما كنا السنة  الماضية فلا هي غيرت من سلوكياتنا و لا أعطيناها حقها  ، روحيا و سلوكيا أتكلم . هذا من جانب أما من الجانب الآخر فما أن يخرج شخص متجدد الأفكار ، دائم النقد و غير جامد الفكر يحاول هدم أصنام صنعناها من تراثنا الاسلامي , حتى تنتفض العقول الجامدة بالتكفير و التخوين تارة برميه بالإلحاد و تارة بالتشيع ، لا لسبب واضح إلا لأن افكاره تهدد راحة البعض ممن استفادوا من جمود عقول الناس على الأفكار السائدة  . و لأن أنفسنا  مجبولة على الراحة و عدم " زعزعة " سباتها نحس عند أول تهديد لهذه الأصنام بتضخم الأنا الممزوج بالغضب المصطنع بحجة الوصاية المطلقة على الدين , فعندما نريح أنفسنا من التفكير و نرمي مخالفا بأديولوجية تحمل معنى سلبيا في قاموس الوعي الجمعي للمجتمع يؤدي هذا إلى ركود المجتمع و تقوقعه على أفكاره  .أن نخدع أنفسنا و نعزو فشلنا في مقاومة هذا السيل المتدفق من الصدمات إلى الآخر كفيل بأن يكرس في عقولنا أفكار التعالي و الغرور  و أهم من هذا  ضمان الجنة التي يمكن إختزالها في فكرة " شعب الله المختار", و بأن نقنع أنفسنا  أن أخطاءنا ما هي إلا نتيجة تآمر الآخر علينا (الغرب) .